الاقتصاد الاجتماعي وأفول مرحلة الرأسمالية المالية
:ملخص تنفيذي
لم يكن لاحد في أسوأ كوابيسه تصور، أن وباء عالميا سيحدث كل هذا الصخب وكل هذا الهدوء الفجائي في الحركة العملاقة للكون بمصانعه وسفنه وطائراته التي أطفئت محركاتها وتوقف قرابة مليارين ونصف مليار انسان عن الحركة. لكن هذا الوباء رفع أمام الجميع اشارة مرور على الطريق السريع للحياة “قف وفكر”. فالعالم بات اليوم امام تحولات كبرى، قاطرتها، الثورة الرقمية واقتصادات المعرفة، التي تسحب خلفها الاقتصادات الكلية والعلاقات الدولية ومنظوماتها التي انشئت بعد الحرب العالمية الثانية، تماما كما حصل عقب الأوبئة التي اجتاحت العالم والحروب الكبرى في التاريخ المعاصر. ولعل أهم تعبيرات المرحلة الليبرالية الجديدة في اعلى تجلياتها ما يعرف بالرأسمالية المالية، التي راكمت الثروة الكونية خارج علاقات الإنتاج التقليدية من صناعة وزراعة والاستثمار في الموارد الطبيعية. في هذه الورقة، نحاول استشراف مستقبل الاقتصاد العالمي وما ينسحب عليه من مستقبل النظام الدولي بعد هذه الجائحة الكبرى
:اقتصاد الكازينو
تزامنا مع انتشار وباء كورونا الذي داهم العالم وما أعقبها من اغلاق ألقى بظلاله على الاقتصادات العالمية. شهدت مؤشرات النمو تباطؤا في النشاط الاقتصادي وتقليص الاستثمارات، الأمر الذي سبب انخفاضا حادا في الإنتاج والتوظيف والدخل وتوقف شبكة التوريد والتزويد، بدأ معها الحديث عن الرأسمالية المالية كأحد الأسباب الرئيسية في أزمة الاقتصاد العالمي. فالرأسمالية المالية هي أحد أشكال الرأسمالية الحديثة التي جعلت الهيمنة المطلقة لرأس المال في الاقتصاد العالمي وفاضلت “مضاربة الكازينو” على الاستثمار في القطاعات الانتاجية والاقتصادية الأخرى لسهولة وسرعة تحقيق عوائد مالية عالية، فشهدت أسواقها خلال الأعوام السابقة ازدهارا ما زال قائما رغم التحديات السياسية والاقتصادية خلال العقد الماضي، ما مكّن أصحاب الثروات من خلق نفوذ وتأثير في العملية السياسية والأهداف الاقتصادية. فالمال هو المكون الوحيد في مدخلات ومخرجات المعادلة، الأمر الذي شجع طبقات المجتمع العاملة شيئا فشيئا للاتجاه نحو القطاع المالي والاستثمار بالمنتجات المالية
تغول الرأسمالية المالية في السنوات الماضية والاتجاه نحوها أخد طابعا ريعياً يعيش على توظيف رأس المال في الأسواق المالية وخلق نوع من العلاقة الإشكالية مع القطاع الصناعي والإنتاجي في الاقتصاد المعاصر الذي بدوره تعرض للإهمال والنزوع عن الاستثمار. فصافي عوائد الربح على رأس المال المستثمر في الأصول المالية أخذت تقفز بمعدلات سريعة وكبيرة بمقارنة الأرباح التي تحققها عوائد قطاعات الإنتاج ما يثير علامات استفهام أكبر من أن يتم تجاهلها، وأصبح الاقتصاد العالمي يتحرك باتجاه حركة المؤشرات في البورصات العالمية، وكنتيجة لتعظيم الأرباح ازادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدول التي أعادت بناء منظومتها السياسية والأخلاقية على قيم المساواة
هل بات العالم متأخرا في وقف تحكم واحتكار هذا التوحش؟ وما هو الثمن الذي سيدفعه الأفراد والقطاعات الاقتصادية؟ أسئلة باتت ضرورية بعد كل هذا التقدم والانزياح نحو الاستثمارات الافتراضية في أسواق المال
أصبحت أسواق المال تدرك مقاصد المستثمر أكثر من المستثمر نفسه، فاهتمام الشركات بنسب عوائد الربح على رأس المال وعدم الاكتراث بتطوير تقنيات تنافسية أحدث شرخاً جسيما في النظام الاقتصادي وشجع البعض على التحايل لإخفاء الكثير من الديون التي تستخدم في تمويل نمو الأرباح. ببساطة، تقوم الشركات بالاقتراض من البنوك بسعر فائدة متدن لتمويل عمليات اعادة شراء أسهمها مما يرفع سعر السهم وبالتالي زيادة الأرباح، وهذا ما يفسر انتعاش اسواق المال في الوقت الذي يخفي بين طياته ركودا في الانتاج وضعفا في النمو. فنمو القطاع المالي بدرجات أكبر من القطاعات السلعية والخدماتية الأخرى يعد عبئاً على النظام الاقتصادي وخطرا عليه في محاولات لحجب التمويل عن بعض القطاعات الانتاجية الأخرى، فالعلاقة هنا يجب ان تكون تكاملية لا تنافسية
بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2018، لجأت الحكومات والمصارف المركزية لاتباع سياسات نقدية غير تقليدية واسعة النطاق لتنشيط الاقتصاد وتشجيع” الطلب“، منها خفض اسعار الفائدة والتيسير الكمي وزيادة التسهيلات. لكن ذلك لم يمنع الركود والانكماش الذي عاشته الاقتصادات العالمية الكبرى. الآن وفي ظل جائحة كورونا يعاود العالم استخدام نفس الأدوات لمعالجة توقف عجلة الاقتصاد
لقد فشلت السياسات النقدية في تحفيز الاستثمار، بسبب الخلل البنيوي العميق وبفعل توقف مثلث الاقتصاد، العرض والطلب وشبكة التوريد والتزيد، في قراءة مدققة للأرقام، أشار معهد التمويل الدولي في نوفمبر الماضي أن الدين العالمي في نهاية عام 2019 تجاوز مستويات قياسية بلغت حوالي 255 تريليون دولار، أو ثلاثة أمثال الناتج الاقتصادي السنوي للعالم. أما صندوق النقد الدولي فأشار الى ان الدين العالمي الحالي – العام والخاص – وصل إلى 188 تريليون دولار وهو ما يعادل 230% من الناتج العالمي. هذا يعني أن الدين أصبح وسيلة أساسية للنمو الافتراضي، وأن المضاربة في أسواق المال أصبحت المقياس لهذا النمو، مما ينذر بكساد الاقتصاد العالمي وتضخم في النظام المالي الدولي خارج العملية الإنتاجية
تختلف التحديات الراهنة عن سابقاتها في الشكل والمضمون، مما يزيدها تعقيدا وضبابية. ففي الوقت الذي نشهد إعادة تشكيل للمشهد الدولي من خلال صعود قوى اليمين الشعبوي التي تطالب بمناهضة العولمة، وتفكيك المنظومات والاحلاف والمؤسسات العالمية، بالإضافة لتزايد التهديدات بفرض عقوبات من جانب الدول المتنفذة واتساع دائرة الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم الصين والولايات المتحدة وتدهور التصنيف الائتماني لبعض الدول. كشفت الازمة الوبائية عمق أزمة المسار الاقتصادي العالمي وانعطافاته الكبرى نهاية السبعينات فيما عرف بالمرحلة الريغانية التاشرية، ونهاية الدولة التدخلية لصالح الدولة المنظمة الليبرالية الجديدة ، والتي تمثلت في بيع أصول الدولة لصالح الشركات الاحتكارية الكبرى وخروج الدولة من دورها الاجتماعي، من سكن ومواصلات ورعاية صحية وتعليم بكل مستوياته ، والتخلي عن الصناعة التقليدية، بترحيلها الى دول العمالة الرخيصة ،الى مصنع العالم في الصين والهند وغيرها من دول جنوب شرق اسيا .هنا تصدر المشهد ملوك رأس المال المالي، وتحولت بورصة نيويورك ولندن ، الى مركز رئيس في لعبة الخدمات المالية ، في ما يشبه نادي قمار العالم
لكن مسار التاريخ لا يسير دائما في خط مستقيم ، فقد حصل في هذه المرحلة الزواج بين القوة الاقتصادية الصاعدة وهم رواد التقنيات الرقمية الجديدة ورأس المال المالي ، وهو القوى العظمى الجديدة التي أحدثت ثورة في مفهوم الاقتصاد والسلع، واجبرت الاحتكارات التقليدية الكبرى على الانصياع والافراج عن الاكتشافات والاختراعات العلمية التي ظلت حبيسة لعقود في الادراج، لان تطبيقاتها تفضي الى متوالية لا تنتهي من التغييرات، تلغي او تعدل من مسار العديد من الصناعات، سواء كان في قطاع الاتصالات او المواصلات او السيارات او الطاقة والزراعة وغيرها. لهذا لا نبالغ إذا قلنا ان مرحلة كاملة من التاريخ في طريقها الى النهاية، إيذانا ببدء عصر جديد، واقتصاد يكون محوره الانسان المستهلك، استقراره الوظيفي وصحته وتعليمه ورفاهيته.
:الخلاصة
ان اقتصاد المعرفة القادم لا يحتمل الانغلاق والحروب التجارية التي يقودها مركب شركات النفط والسلاح التي افل نجمها. نحن أمام عولمة متجددة، تختلف عن العولمة التي فرضها الغرب الرأسمالي المنتصر في الحربين العالميتين الاولى والثانية واستكملها بالانتصار الثالث في الحرب الباردة. من أبرز سمات العولمة الجديدة الاعتراف بالمصالح الجيوسياسية للدول الكبرى الصاعدة والداخلة بقوة عصر التقنية الرقمية وفي مقدمتها الصين، لان بديل المصالحة والتعاون هو الحروب المدمرة، والمسالة الأخرى هو التعديل الاجباري على الخلل الذي أصاب الاقتصاد العالمي في مرحلته الليبرالية العليا، الرأسمالية المالية، لصالح ما يعاد الاعتبار له في الادبيات السياسية اليوم وهو الاقتصاد الاجتماعي